ما وراء الإستراتيجية التركية في إدلب


الكاتب: طارق أمهان

بسم الله الرحمن الرحيم
إن ما تقوم به تركيا على جميع الأصعدة:
إرسال أرتال
إغلاق مضائق
حظر في المجال الجوي
تواصل مع الناتو وأمريكا ودول أوروبية
...إلخ
له هدف واحد هو جعل روسيا تقتنع بأن الخيار العسكري وشن عملية عسكرية تركية في ريف إدلب جدي ومحتمل جدا
وهنا أقف مع فئتين من الناس: 
الأولى: المحللون السياسيون وهؤلاء يكون الوصول للكلام المذكور آنفاً هو أقصى ما يمكن أن يصل إليه أمثلهم طريقة. 
الثانية: المختصون بالتخطيط الإستراتيجي والممارسون له بعمق خاصة التخطيط بطريقة السيناريو فهؤلاء يعلمون علم اليقين أن حصول هذه القناعة عند الروس وإدراكهم أنه خيار جدي وحقيقي يعني عدم وقوعه وإلغاؤه.

ولأن شرح ذلك يطول ويحتاج مقدمة في علم التخطيط الإستراتيجي سأوضح الأمر قدر استطاعتي وبأقل الكلمات دفعا للملل عن القراء وضرورة أن يقرأه كل مقيم في المناطق المحررة
أولاً: التخطيط الإستراتيجي بطريقة السيناريو يقوم على دراسة جميع الاحتمالات الممكنة الحصول وإعطائها نسبة مئوية وفق قوة احتمال حدوثها 
وبناء على ذلك توضع الخطة " أ " للتعامل مع الحدث الأكبر احتمالا 
ويتم وضع خطة "ب" و "ج " و "د" و ....الخ كلما انخفضت نسبة وقوع الحدث المدروس وتكون هذه الخطط جاهزة للتطبيق في حال حصل أمر مخالف للتوقعات كأن يحصل الحدث الثاني في تقدير النسبة بدلاً من الأعلى نسبة. 
ثانياً: نفهم مما سبق أن المخططين يضعون خططا لجميع الاحتمالات المتوقعة سواء كانت نسبة حصولها صغيرة أم كبيرة. 
ثالثاً: عندما يكون حصول أحد الاحتمالات سيئاً بالنسبة للدولة فإن المخططين يحاولون أن تكون النتيجة في أدنى درجات الخسارة ما دام ليس هناك مفر منها ويفضلون التنازل عن بعض المكاسب أو المقدرات خشية فقد أضعافها في حال وقوعه. 

الآن وبعد تدوين السطور السابقة يمكن شرح الإستراتيجية التركية بشكل يفهمه جميع القراء بغض النظر عن مستوى تحصيلهم العلمي.
إن تركيا تراقب الوضع في إدلب أكثر من أي دولة أخرى وبدقة عالية وقد رأت أن موجة النزوح بعد المعارك الأخيرة وسيطرة النظام على معرة النعمان لم يشمل القرى القريبة المجاورة فقط إنما امتد ليشمل قرى تبعد 30 كم و40 كم عن معرة النعمان.
وإذا كانت سيطرة النظام على معرة النعمان والقرى بريفها الشرقي أدى إلى نزوح جبل الزاوية بالكامل تقريباً مع كونه حصينا جداً 
فإن تركيا ترى بعينيها يقينا هدم الجدار الحدودي وتدفق اللاجئين إليها عندما تصل موجة النزوح إلى مركز المحافظة - مدينة إدلب - وهي لا تفكر بمن يقيم في المدينة نفسها وأعدادهم إنما الأمر عندها أشبه بزلزال تتبعه هزات فعندما تنزح إدلب المدينة لن يبقى أحد في سهل الروج ولا في المناطق شمال إدلب حتى سرمدا تقريبا وقد يبلغ النزوح غربها مدينة ملس ويصل مشارف أرمناز فالقضية لا تقدر بمليون أو مليون ونصف إنما قد تصل إلى أربعة ملايين إنسان وقد تتجاوز هذا الرقم.

عند ذلك لا مفر لها من استقبال اللاجئين بطريقة قانونية وغير قانونية وبدون توثق من هوياتهم. 
فما هي الإستراتيجية الأقل كلفة ماديا والتي يمكنها اتباعها وتطبيقها بقرار تركي دون أن يرتبط بدولة أخرى أو يحتاج لموافقة أممية ؟
إن هذه الإستراتيجية تعتمد على ما قدمته من تعريف بسيط للتخطيط الإستراتيجي بطريقة السيناريو حيث تسعى تركيا لجعل العمل العسكري احتمالا ممكنا وبنسبة عالية عند المخططين الروس وبشكل لا يمكنهم تجاهله  خاصة كمخططين لأن تجاهل أي احتمال يعد ضعفا عندهم في هذا المجال وهو ما يخشاه المستشارون الاستراتيجيون أكثر من الموت نفسه لأن مثل هذا الخطأ يقضي على مسيرتهم المهنية. 

وعندما يحظى العمل العسكري التركي في إدلب بهذا الاهتمام من قبل المستشارين الروس سينعكس ذلك في الاجتماعات والمفاوضات الثنائية الأمر الذي سيجعل الروس يتنازلون عن طموحات يعدون لها مستقبلا أو أهداف قريبة أو مكاسب حصلوا عليها مؤخرا
لأن ذلك أهون - حسب تقديراتهم- مما سيسببه العمل العسكري التركي إذا حصل.
وتركيا إذا وصلت إلى هذا الهدف بمكالمة هاتفية ستقف عند ذلك الحد وإذا وصلت لذلك بإدخال رتل وقفت عند ذلك وهي على هذا الحال من التدرج حتى هذه اللحظة إن تحقق الأمر بتصريح فبها ونعمت وإن لا قاموا برمي قذيفة هاون فإن لا قاموا بإغارة فإن لا ساندوا الفصائل بالمدفعية فإن لا جعلوا الطائرات تحوم ضمن الأجواء السورية فإن لم يجدي كل ذلك فتحوا معركة صغيرة أو كبيرة حسب تقديرهم أنها كافية. 
ومعنى ذلك - عندما يدخل العمل العسكري التركي ضمن الاحتمالات التي تعنى بها عملية التخطيط الروسية - أن الأتراك سيتقفون عن أي عمل عسكري عندما يتأكدون من إدراجه في الخطة الروسية وبناء على الاهتمام الروسي بذلك سينعكس الأمر على الأرض فإن أدرج احتمال العمل العسكري اليوم في الخطة الروسية استقرت السيطرة على ما هو الوضع حالياً فإذا تأخر هذا الإدراج اضطرت تركيا لإغارة أو تحرير قرية لتعلم روسية أنها جدية وكلما تأخر الروس بذلك اضطرت تركيا للانخراط أكثر في العمل العسكري. 
*وبناء عليه الوضع على الأرض إما أن يستقر كما هو أو يتم استرداد بعض القرى وخسارة أخرى في المناطق التي يستطيع النظام التقدم عليها منفرداً لأنها أضحت محاصرة بالكامل تقريبا أو بدء عمل كبير قد يتم فيه الوصول إلى معرة النعمان وهذا يعني تجاهل الروس لكل الإجراءات التي تقوم بها تركية والنظر للأرتال المرسلة على أنها أرتال من الذباب والحشرات لا أكثر. 

خاتمة: 
من الأمور المهمة التي ستنعكس على نظريات علم التخطيط الإستراتيجي نفسه في حال نجح الأتراك في تحقيق هدفهم بإدراج العمل العسكري التركي ضمن احتمالات الخطة الروسية وهو إمكانية القدرة على توجيه الخطة الإستراتيجية لدولة ما وفق ما يريد الطرف الآخر وسيضع التخطيط الإستراتيجي نفسه أمام تحد جديد هو تأثره بإرادة الخصوم أو المنافسين ولعل هذا المقال هو باكورة هذا التحدي. 

بقلم: طارق عبد الحكيم أمهان

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الشهيدان سامر قشيط وأيمن صبوح

لقاح أسترازينيكا ضد فيروس كورونا ( كوفيد19) قد يخسر عقود بيعه بسبب وفاة ممرضة